مدينة شربة الأثرية

مدينة شربة الأثرية
د . سعيد علي حامد


تقع مدينة شربة في عمق الصحراء الليبية ، إلى الجنوب الغربي من مدينة تساوة بنحو 30 كيلو مترا ، ويمكن الوصول إليها من مدينة مرزق عن طريق تساوة التي تبعد عنها بنحو 55 كيلومتر ثم إلى شربة.
تنتشر أطلال مدينة شربة الأثرية على أحد الأودية المتفرع من وادي برجوج والمعروف باسم وادي شربة ، على مساحة كبيرة من الأرض تقدر بنحو 8 كيلومترا مربع وتشير أطلالها أنها كانت مدينة مزدهرة ، نظراً لموقعها الاستراتيجي المهم على طريق القوافل التجارية والذي يربط جرمه بالنيجر ووسط أفريقيا ، حيت ينطلق هذا الطريق من جرمة في اتجاه الجنوب مرورا بمكنوسة ثم تساوة فقصر مارا ومنه إلى شربة عبر الأودية إلى كوار ومنها إلى زندر وضفاف نهر النيجر .
وتثير أطلال هذه المدينة تساؤلاً كبيراً حيت لم يشر أحد من الرحالة أو المؤرخين المسلمين إليها ، فالإدريسي صاحب كتاب نزهة المشتاق الذي ألفه في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي أشار إلى أرض فزان وذكر مدينتي جرمة وتساوة واثني على عظمها وكثرة العامر بهما ، وذكر أن " السودان يسمون تساوة جرمي الصغرى ( 1 ) . وتجدر الإشارة هنا أن بتساوة مقبرة إسلامية توجد بها الكثير من شواهد القبور التي كتبت بالخط الكوفي تعود إلى القرن الثالث الهجري ، والتاسع الميلادي ، وبين شربة وتساوة مرحلة .

كما أن الرحالة ابن بطوطة ( 1304 ـ 1368 ) والمؤرخ ابن خلدون ( 1332 ـ 1406 ) وهما أول من ذكرا مدينة غات من الرحالة المؤرخين المسلمين لم يشيرا إلى مدينة شربة . ولم يذكر الرحالة محمد بن احمد القيسي الشهير بالسراج والملقب بابن مليح في رحلته الحجازية المسماة ( أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهي الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب ) التي قام بها بين سنتي 1630 ـ1633 م مدينة شربة رغم أنه اخترق مدن الجنوب الليبي ووصف الكثير منها كسردلس ( العوينات ) و أوباري وجرمة وتساوة ومرزق وتراغن و زويلة و غيرها ( 2 ) .
ومع حركة الكشوف والرحلات التي قام بها المستكشفون والرحالة الأوربيون إلى مدن الصحراء الكبرى خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، إذ وطأت أقدامهم المدن والواحات الليبية فتركوا لنا في الكتب والتقارير التي دونها وصفاً لها ، ومع ذلك فإن مدينة شربة لم تحظ بزيارة أو إشارة إليها منهم ، فالرحالة ليون علي سبيل المثال والذي قام برحلته سنة 1819 وجمع مشهداته في كتاب بعنوان ( من طرابلس إلى فزان ) ( 3) أشار إلى الكثير من المدن القريبة من شربة ولكنه لم يشر إليها " وربما كانت هذه المدينة ضمن المدن التي أشار إليها المؤرخ العربي ابن عبد الحكم عند كلامه عن فتوح عقبة بن نافع في بلاد الجرامنت ، فقد تحدث عن مدينة كبيرة كانت على راس بحر الرمال ( المفازة ) وأن أهلها قد امتنعوا على عقبة حتى اضطر لفتحها بالحرب " ( 4 ).
ومن المعلوم أن القائد العربي عقبة بن نافع قاد حملة سنة 49هـ منطلقاً من مدينة مغمداس بالقرب من سرت إلى عمق الصحراء الليبية فاتحاً مدنها وواحاتها وقصورها قصراً قصراً وبلغ فيها أقصي أطرافها ثم " كر عائداً إلى زويلة التي ربما كان سلك إليها طريق القطرون ، ومن زويلة عاد إلى معسكره بمغمداس بعد غياب خمسة أشهر " (5) قضاها في الجهاد في سبيل الله لنشر الدين الإسلامي . وبفضل هذه الحملة عرف العرب المسلمون مسلكاً إلى وادي الآجال ... كما أنهم خبروا أقصر الطرق بين المتوسط وبلاد السودان والمارة بالقطرون وتجرهي ، وبفتحهم غدامس وقسطيلية عرف العرب المداخل الأفريقية لطريقين مهمين آخرين نحو السودان " (6).
تدل البقايا الأثرية لمدينة شربة على أنها كانت مدينة مزدهرة لوقوعها على طريق القوافل ، وكانت تحصل قديماً على نسبة من الأمطار إضافة إلى توفر المياه الجوفية القريبة من السطح ووجودها على احد الأودية ، وكان يحيط بها سور ضخم به العديد من الأبراج ، وتوجد آثار بارزة لمبنيين كبيرين لعلهما قلعتين (7) " وقد غطت الرمال معظم مباني المدينة ولم يبق منها سوى الآثار المرتفعة ، وبجوار المدينة وعلى سطح تل قليل الارتفاع توجد مقبرة كبيرة تضم عدداً من القبور الدائرية الشكل والكبيرة الحجم وهي مقبرة تخص سكان مدينة شربة القديمة وهي شبيهة بالقبور المستعملة في الفترة الجرامنتية " (8) وهي الفترة التي عرفت فبها الصحراء الكبرى العربات التي تجرها الخيول ، والتي أشار إليها المؤرخ الإغريقي هيردوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ، وعثر على نقوشها في العديد من أودية جبال أكاكوس ووادي زقزا .
استمرت مدينة شربة في ازدهارها بعد دخول الجمل إلى الصحراء الكبرى الذي " جيء به من البلدان الآسيوية الغريبة بعد العصر الجليدي (Pleistocene) وظهرت نقوشه في الفن الصخري ، ويعطي مورى في مقترحه الكرونولوجي للرسوم الصخرية لدور الجمل من بعد 1500 ق . م إلى نهاية القرن الأول ق . م (9) .
ويرد أول ذكر للجمل في شمال افريقية إلى سنة 46 ق .م ، وقد ازداد استعماله في القوافل التجارية ولأغرض الزراعة وتظهر نقوش مدينة قرزة وبعض المناطق الأخرى ذلك .
لقد تغيرت الظروف المناخية في منطقة الجنوب الليبي حيت ارتفعت درجات الحرارة وتناقصت كمية الأمطار تدريجيا وقلت الرطوبة بها وأصبحت الخيول غير قادرة على ولوجها ، وسلك الجمل دروباً جديدة لاختراق الصحراء وظهرت مدن تجارية صحراوية جديدة في القرن السادس عشر ومن أهمها مدينة مرزق سنة 1550م التي أصبحت قصبة دولة أولاد محمد فتحولت طرق التجارية إليها ومع ذلك يمكن القول إن شربة قد استمرت الحياة بها لفترة من الزمن بعد ذلك ، فنجد أنها ارتبطت بمرزق بمجموعة من القصور تعرف بقصور أم الحمام من أهمها قصر تقلقلت وقصر المناشي وقصر تاميرا (10) .
وبدأت شربة تفقد أهميتها تدريجياً بعد ذلك فهجرها سكانها ولم يبق منها الآن سوى أطلال تدل على ازدهارها في فترات تاريخية امتدت لعدة قرون . وهي الآن ترقد تحت دثارها الرملي ، ولا تزال في طي النسيان فلم تطأ أقدام الرحالة غطائها الرملي ، ولم يطرق سمعها معاول الأثريين ، ولا ومضات آلات التصوير ، وهي في غفوتها وغفلة هؤلاء عنها تشير إلى حضارة سادت في عمق الصحراء ، ونتيجة لعدة عوامل تضافرت معاً منها نضوب المصادر المائية ، فأصبح ماؤها غوراً فلم يستطيع أهلها له طلبا ، وزحف الرمال ، وانحراف القوافل التجارية عنها إلى مدن جديدة مثل مرزق أدى ذلك إلى فقدان مدينة شربة أهميتها التجارية وهجرها أهلها فطمرتها الرمال وأصبحت من المدن القديمة المنذثرة .


المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية © 2010