الوزير الوزير
عدد المساهمات : 153 تاريخ التسجيل : 18/08/2011 العمر : 47 الموقع : https://rebe.yoo7.com
| موضوع: ليبيا .. وأنفاس العشر الخميس يناير 19, 2012 2:26 am | |
|
ليبيا .. وأنفاس العشر خطبة جمعة بمسجد محمد الفاتح 1/12/1432
- الحمدلة لقد ماتَ معمَّر ! مات حسيراً ذليلاً كسيراً مُدافَعا بين أيدي رجالٍ لم يكن أحدٌ منهم يجرؤ أن يرفع بصره إليه ! لم تعد مثل هذه الصورة مستغربةً عندنا ! حين أعدم صَدّام اتسعتْ حدقاتُنا دهشةً فقد كانت أولَ مرةٍ نرى فيها زعيماً عربياً يواجهُ مصيراً كهذا ! ثمّ لم يلبث زينُ العابدين أن فرّ متنقّلاً من بلدٍ إلى آخر يستجدي مأوى! ثم سقطَ مباركٌ وظهر وراء القضبانِ ! وهاهو معمَّرٌ قتيلاً ! وكل الدلائل تشير إلى لحاقِ بشارٍ وعليٍّ بهذا الموكب ! وأنتَ إذا نظرتَ وجدتَ التناسبَ الطرديَّ بين طولِ الممانعةِ وبشاعةِ النهاية ! من فرارٍ إلى سجنٍ إلى قتلٍ ! فما عسى أن يكون الذي سيأتي ؟ قلتُ: إنّ سقوط الرؤساء لم يعد مدهشاً بالنسبة لنا ! والمعاني الإيمانية العظيمة الجليلة التي تُستحضرُ في مثل هذا المقام قد قيلت ثلاث مراتٍ ! وحسبك من إعادة الحديث أن يُعاد ثلاثاً. والحديث عن عاقبةِ الظالمينَ الطغاة المستبدين وسوء مآلهم قد تكرر أيضاً. فلذلكَ أكتفي بأن أتدبّر وإياكم في خشوعٍ قول المولى جلَّ جلاله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وقوله تعالى : (فلاتحسبن الله غافلاً عما يعملُ الظالمون). وسأنتقلُ بعد ذلك إلى أهزوجةِ فرحٍ انبعثتْ يومَ سقطَ الظالم بأيدي المظلومين .. : قومي إليها وافتحي أبوابَها.. وتنفسي بعد الأسى أطيابها وتنعمي بشذى وصالك بعدما .. طاغوتك الباغي أطال غيابَها قومي إلى حرية بزغت وقد.. جعلت دماء الأصفياء خضابها وتوشحت بالتضحيات عزيزةً.. وبطُهر أرض دكدكت نَهّابَها جاءتك مُسلِمةَ القياد وطالما.. أعيت - وما كذب الهوى – خُطّابَها قومي إليها .. عانقي أفراحها.. وحذار أن تئدي غدا أسبابَها عُمِّرتِ ياليبيا وباد (معمرٌ).. أين الطغاة؟ ألا يعون خطابها؟ أيها الإخوةُ ... تستحقُّ الثورة الليبيّة دراسةً خاصةً، وتأمُّلاتٍ على غرار تأملاتِ ثورة الياسمين، وثورة الجناين، وثورة الشتاء والصيف! والقذافي خصوصاً يستحقُّ تأملاً فكرياً نفسياً يكافئ غرائبه وعجائبه! ولكنّ زمان ذلك لم يحن بعدُ ! ولا تسألوا لماذا ؟ لأني أظنّكم تعرفون هذا المنبر وعاداته ! وحسبي أن أشيرَ إلى معنيين مهمين ثمّ أفضي إلى التذكير بشرف الزمانِ الذي نحنُ فيه. أول هذين المعنيين: أنَّ الاستبدادَ يخنُقُ الكفاءاتِ، فتتوارى كل الوجوه خلف وجهِ المستبدِّ، فلا صوتَ إلا صوتُهُ، ولا صورة إلا صورتُهُ، ولا رأي إلا رأيه ! لم نكنْ نعرفُ لليبيا وجهاً سوى القذافي ! والآن حين سقطتْ أخرجتْ ليبيا فلذات أكبادها .. رأينا قادتها الميدانيين البارعين، وساستَها المحنَّكين المتميزين، وعلماءها الراسخين، ومثقفيها الرائعين. أصبحنا نرى عبر الشاشات قاماتٍ سياسية وعلمية وفكرية وعسكرية .. ونتساءل : كيف استطاع الطغيان أن يغيبَ هذا الوجه المضيء لليبيا ويبرز وجهاً واحداً قميئاً ؟ حتى القياداتُ التي صنعها القذافي كانت شبحاً سرعان ما يتضاءل أمامه ! حتى نائبُهُ في الرئاسة لم يكن أكثر من (ديكور) ! يحكي وزير سابقٌ من وزرائنا عن زيارة رسميَّةٍ ملكيّة لليبيا حملهم خلالها العقيد في حافلةٍ استمرت تسير 3 ساعات! وطوال الطريق كان العقيد يصرخ: عبدالسلام دير شاي! عبدالسلام أخبر الشرطة ألا يسرعوا! عبدالسلام أين الماء؟ ومع كل صرخة كان (نائب الرئيس) يقوم بنفسه ليحضر الطلبات وينفذ الأوامر ! يقول الوزير المرافق: "كانت لهجة العقيد جارحة لايستطيع الرجل المهذب أن يستخدمها مع خادم في منزله، كان من الواضح أن الأخ الرائد ليس شريكاً في السلطة ولكنه مجرد ظل لصاحب السلطة .. وكان من الواضح أن قادة الثورة الآخرين هم بدورهم مجرد ظلال باهتة للأخ العقيد" [الوزير المرافق: 128] إنها ليست خصوصية ليبية ! بل هي قانون بشريٌّ .. كل استبدادٍ يصعد على كتفِهِ فرد ويُداسُ تحتَ قدمه السوادُ الأعظمُ ! هاهو فرعونُ يحكي عنه القرآن : (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) ! ( ماعلمتُ لكم من إله غيري ) ! ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين ) ! ( قال آمنتم له قبل أن آذن لكم )! إنّها الأنا التي تُلغي كل آخر ! حتى في الأسرة الصغيرة .. يكون استبداد الأب سبباً في مسخ شخصية الأبناء ! والمعنى الثاني من المعاني التي تُلهمها أحداث ليبيا : هو أنَّ هذه الدنيا لا تبقى على حال ! وهذا الدار لاتبقي على أحدٍ ... ولا يدوم على حال لها شانُ وعليه فإنّ الخضوع لضغط الواقع والاستسلام له ليس من شيم ذوي العزائم الذي يحسنون قراءة التاريخ ! ولذلك يعلق الله المؤمنين دائماً بالأمل والفرجِ : (لاتحزن إن الله معنا) ، (والله غالبٌ على أمره)، (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). إنَّ أربعين سنةً من البطش لم تضمنْ لمعمَّر بقاء عرشه ! أربعون عاماً من الترويع والترهيب والمذابح والسجون والتعذيب والثرثرة والحماقات لم تُفلح في أن يظل الرجل رئيساً حتى موته ! أربعون عاماً من الأموال والجيوش والتخطيط والاستعداد وشراء الذمم والتحصين .. ذهبتْ هباءً في لحظةِ ثورةٍ صادقة .. وكانت النهاية ما رأيتم وسمعتم ! فما بالنا .. نستسلم لواقعنا المرير ؟ ما بالنا نيأسُ ؟ ثم ما بال يأسنا يحملُنا على التنازلاتِ ؟ ولقد عرفتُ عن كثبٍ قصةً ليبيةً عجيبة تشهدُ لهذا المعنى .. إنها قصةُ رجلٍ من علماء ليبيا ودعاتِها .. هرب منها فاراً بجلدِهِ وتنقل بين الدول العربية تطرده دولة لتؤويه أخرى ثم ما تلبث أن تطرده لتتلقفه ثالثة وهكذا ! عاش فقيراً محتاجاً مضطراً مع عفة نفسٍ وشممٍ . لقيتُهُ في مؤتمر الرابطة الماضي إبان اشتداد الثورة فأخبرني أن أبناءه أسرى لا يدري عنهم شيئا ! ولا يعرفُ أقُتِلوا أم مازالوا أحياء ! دارت الأيامُ دورتها .. وأصبح هذا الرجل وزيراً للأوقاف في ليبيا الجديدة ! تحوّل الطريدُ الشريد إلى وزير ! فسبحان الذي بيده كل شيء ! سبحان الذي هو غالبٌ على أمره ! (بدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ) (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ذانكَ معنيانِ لافتانِ في خبر الثورة الليبية . فلنقتصر عليهما .. حتى يأذن الله بما شاء .. ولنلتفت إلى شرفِ مانحنُ فيه من الزمانِ . فنحن أبوابٍ عشرٍ كريمةٍ مباركةٍ . أعني بها عشرَ ذي الحجةِ ذاتِ المنزلة والفضل والثواب . وأولُ ما يلفتُ النظر هنا .. قلةُ احتشادِنا لهذه العشر المباركاتِ . وقد فكرتُ مرة .. ما الذي يجعل الإنسان لا يحتفي بالأشياء الثمينةِ وهي بين يديه ؟ فوجدتُ ذلك يرجع إلى أمور : أولها : ألا يكون عارفاً أصلاً بقيمة ذلك الشيء ، ولا مدركاً لنفاستِهِ . وثانيها : أن يكون ذلك معلوماً عنده ، لكنه محبوسٌ في العقلِ ، لم ينزل إلى القلبِ حيث مستقرّ الشعورِ . وثالثها : أن يكون عارفاً بقيمتِهِ ، مستشعراً لنفاستِهِ ولكنَّ أموراً أخرى تنازعُهُ مكانه في القلبِ ، وتجورُ على حصتِهِ من الأحاسيسِ . وحين طبّقت هذا الذي أقوله على موقفنا من العشر الأول من ذي الحجةِ وجدتُ مصداقَ ما ظننتُ ، ورأيتُ شواهدَ ما كنتُ فيه قد فكرتُ. ووجدتُ أن العلةَ الحقيقية في انصرافِ أكثرنا عن الحفاوة بهذه العشرِ هي العلة الثانيةُ ، أعني : انحباسَ المعلوماتِ في العقلِ ، وعدم نزولها في القلبِ . وإن من أعجب العجب أننا ألفنا الحديث عن مواسم الفضائل وأوقات البركات حتى تبلدت أحاسيسنا ، و ربما كــان البعض ـ لكثرة ما سمع عن العشر ـ سيسابق الخطيب فيما يرويه من آثار وأخبار و ربما زاد عليه ، ثم رجع المحدِّث و المحدَّث إلى سيرتهما الأولى فما عمل الأول و لا اتعظ الثاني ! فأي خير في كثرة الحديث إذن ؟ هل تحولت مواسم الخيرات وأيام البركات إلى مجرد مناسبات للحديث و استعراض المهارات البلاغية و القدرات العلمية ؟ إنّ كل ما آملُهُ ألا يكون حديثنا اليوم مندرجاً في هذا السياقِ !! إنّني أؤمّل حقّاً أن يكون الحديثُ أشبَهَ شيءٍ بالمحفّزاتِ الكيمائيّةِ لا تضيف جديداً إلى المركّبِ ولكنّها تعجّلُ بتفاعلِهِ . أعيروني إذن قلوبكم وأرواحكم ... علَّ ذلكَ أن يهبَ الحديثَ روحاً من صفاءٍ تحملني وإياكم على أن نجدَ جديداً من المشاعرِ إذ نقرأ مكروراً من القول ! ولنحاول إذن في مقامنا هذا أن نجعل ما نعرفُهُ عن ( العشر الأوائل من ذي الحجةِ ) ينزلُ في مستقر الشعور .. كيف ذلك ؟ حقيقةً لا أدري .. ولكنني سأحاول بما أذكر من ترغيب وترهيب ، وأبين من معارف ولطائفَ أن ألامسَ مشاعر كل رجل منكم عله أن ينفخ فيما علم عقلُهُ من روح قلبِهِ فتنتفض المعاني لديه حيةً تؤزه إلى الصالحات أزاً . خرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر ، قالوا يارسول الله : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء )) البخاري 969 . وهذا الحديث دليل على أن العمل في هذه الأيام أحب إلى الله من العمل في غيرها ، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده . وفيه دلالة أيضا على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره ، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره . ولكن هل المراد من هذا الحديث تفضيل كل عمل صالح وقع في هذه العشر على جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته ؟ الظاهر أن كل عمل يقع في هذا العشر فهو أفضل من العمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان . فيكون تفضيلا للعمل في كل يوم من العشر على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره . ويشهد لذلك ما جاء في صحيح ابن حبان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : : (( ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة ، فقال رجل : يارسول الله ، هن أفضل أم عدتهن جهادا في سبيل الله ؟ قال : هن أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله )) فلم يفضل العمل في العشر إلا على الجهاد في عدة أيام العشر لا مطلقا . ولقد وقع الخلاف بين العلماء في المفاضلة بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان ، ورأى شيخ الإسلام أن أيام العشر الأول خير من أيام عشر رمضان الأواخر ، وليالي العشر الأواخر من رمضان خير من ليالي العشر الأول من ذي الحجة ، ولعل مما يقوى هذا أن أفضل عشر ذي الحجة وهو يوم عرفة ينتهي بغروب الشمس ، على حين أن أفضل العشر الأواخر ليلة القدر ، وهي تنتهي بطلوع الشمس. وإن كان الإمام ابن رجب ينكر هذا ويرى أن أيام العشر من ذي الحجة ولياليها أفضل من أيام العشر الأواخر ولياليها ، ويحتج برواية فيها زيادة (( و لا ليالي خير من لياليهن )) ويقول رحمه الله : وحديث جابر صريح في تفضيل لياليه كتفضيل أيامه أيضا ، وإذا أطلقت الأيام دخلت فيها الليالي تبعا ، وكذلك الليالي تدخل أيامها تبعا . [ لطائف المعارف 530 ،531 ] ثم قال رحمه الله : و التحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين من العلماء أن يقال : مجموع هذه العشر أفضل من مجموع عشر رمضان وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها [ لطائف المعارف 532 ] وقال أنس : كان يقال في أيام العشر بكل يوم ألف يوم و يوم عرفة عشرة آلاف ، قال يعني في الفضل .
| |
|