http://www.m0dy.net/vb/uploaded/124154/m0dy.net-11250023762.jpg" border="0" alt=""/>
الجرد الليبي: موروث عريق يعتز به كل الليبيون
*ؤسان _ خاص
على الارجح كان تاكسيتي ؤسان يريد أن يستوقفنا الى أشياء تمر امامنا كل يوم , نستعملها و نلبسها ونغسلها ونحفضها و نعتز بها غير اننا لانعيرها اهتماما , دون الذهاب بعيدا , لباسنا الليبي او الزي الشعبي الرسمي الدي نتلحف به في مناسباتنا وافراحنا واتراحنا ونتباهى به في دوائرنا الرسمية والشعبية و الاجتماعية ماذا نعرف عنه ؟, أمسك تاكسيستي ؤسان بحواف جرده التي تدلت من رأسه , ترك طرف جرده ينحدر حتى كاد يلامس الارض وقال ” لا ني مشرق و لاني مغرب , شدوا شن جايكم على الجرد .
الملبس أو اللباس هو أحد أهم مظاهر الثقافة و هو أحد أهم الأوعية التي تشكل هوية الانسان , اللبس ثقافة و هوية , حيث يمكننا ان نعرف الهندي بلباسه المميز و الافريقي الاسود بملابس _ البوبو _ , و نعرف الكردي بالشروال الواسع ونتعرف على اليمني من خلال الخنجر الدي يضعه عند خصر ملابسه التقليدية , يمكننا ان نعرف ايضا العربي بالعقال الدي يحزم به رأسه , ولن نخطئ في معرفة الليبي بجرده الدي لايتنازل عنه حتى في أوقات الشدائد والحروب , ولابد ان أجمل مشهد جسد فيه ارتباط الليبي بجرده , هو مشهد القبض على شيخ الشهداء سيدي عمر المختار بجرده الدي يتلفع به ويرمي بطرفه الى خلف ضهره غير عابئ بسجانيه وهو معصوم اليدين والقدمين , يقاد الى حبل المشنقة الايطالية الغازية الظالمة .
قبل أن نبدأ في رحلة عميقة ذات مسارب متفرعة ومتشابكة ومتقاطعة لتتبع أصل الجرد / اللباس الليبي التقليدي/ , سنبدأ من الرداء الإغريقي , اد يشير المؤرخ الإيطالي / غوليا ناردوتشي / في كتابه / برقة مند الاستيطان الإغريقي _ بان اللباس الروماني منقول عن اللباس اليوناني القديم وأن اليونانيون قد نقلوا الجرد عن الليبيين القدامى , هدا الكلام يؤكده المؤرخ البريطاني / سميث كاج بيركت / في كتابه ممرات الحضارة _ , وقد أشار هيرودوث ” ان ثوب ودرع أثينا قد نقلهما الإغريق عن النساء الليبيات ” .
هذا الجرد الذي كان يرتديه الليبيون أيام الرومان مازل حاضرا وأستمر إلى الزمن الحالي , يقول / سوانسن كاوبر / في كتابه _ مرتفع ألهات الجمال _ ” الزي الطرابلسي الذي يلبسه جميع المسلمين المحليين في المدن أو في الأرياف هو ” البرقان ” أو الحولي , ولا نشاهد هدا اللباس البديع إلا بين تونس ومصر , وهو يمتاز بميزات خاصة به وحده ” , ويعتبر المؤرخ كاوبر وهو أكثر الدين وصفوا الجرد بشكل دقيق , حيث يقول في نفس الكتاب ” فهو يتألف من جلباب أبيض طويل ملفوف بعناية حول الجسم , بحيث تظل اليد اليمنى حرة ويكون في الوسع رفع طرفه ليكون غطاء للرأس ” .
لقد كان البرقان _ وهى كلمة امازيغية أو الحولي منتشرا في القسم الأكبر من المناطق الرومانية السابقة من أفريقيا , ويبدو من الملامح الثقافية السائدة في العصرين الإغريقي والروماني أن تكون إحدى أهم الصفات المحببة في الزوجة الصالحة والتي تستحق المديح حتى بعد وفاتها , أن تكون نساجة ماهرة , وقد عثر على نقش لاتيني يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد , نقش كتب على قبر زوجة يمتدحها زوجها على إتقانها حرفة النسيج ” أيها الغريب قف وإقراء إنني أقول لك قولا موجزا , هدا قبر غير جميل لامرأة جميلة أطلق عليها والدها اسم كلوديا , وقد أحبت بعلها من صميم قلبها , وأنجبت ابنين , تركت أحدهم حيا على الأرض ودفنت الأخر تحت الثرى , كان حديثها مرحا ومضهرها لائقا , كانت تدبر شؤون المنزل وتغزل الصوف , لقد قلت قولي فاذهب لحالك ” , ورد هدا النص في كتاب المؤرخ / دونالد .ر. ددلي / .
نلتقط خيط المديح هذا في حق زوجة ماهرة في النسيج ونقلبه على المرآة الليبية التي وصفتها الباحثة / سعاد بوبرنوسة بانها / حارسة النسيج _ حارسة الثقافة _ , ولو أدركنا قيمة قدرة صمود الجرد الليبي الدي يحتفظ لنا على كنوزا ثقافية , سنظل نكيل بالمديح اللامتناهي للمرأة الليبية صانعة النسيج حتى زمننا الحالي , لقد كانت محقة عندما تركت المرأة االليبية الصناعات الأخرى وجلست تنسج خيوط الصوف تنضفها وتحيكها بين أصابعها في إبداع لا مثيل له و بأشكال مختلفة , بالتأكيد كانت ولاتزال تحمل دلالات ثقافية هامة , وبالنظر إلى الزخارف التي تطرزها الماهرة الليبية على أطراف الجرد مثلا , سنجد قصصا وميثولوجيا وعادات وتقاليد , سنجد مخيالا رائعا في الخطوط والتقاطعات و هندسة الاشكال , الأمر سيقودنا إلى الأحلام والحياة والموت والدفن وحكايات علقت في رموز بسيطة وإشارات عابرة تحمل معاني كثيرة وتحتاج إلى تفاني في نفض الغبار عليها , لقد اختزلت المرأة الليبية ملامح ثقافية هامة أبعدتها عن أيدي العابثين فهربت بها لتسجلها على هدا الرداء الصوفي بلون الثلج او بلون الفحم , هده مفارقة اخرى غريبة عجيبة , اما الاسود أو الابيض , النور أم الظلام , النهار أم الليل , الظل أم الشمس , بهده الخيارات التي لاتحتمل الا اجابة واحدة حافظت الناسجة الليبية على الكنز الجرد = الحولي و على طريقتها .
مازال الجرد يحمل دلالة اجتماعية هامة , فالمرأة الليبية لاتستمر في النسيج آدا حل الظلام , وستعلق عملها ادا كانت هناك حالة وفاة لقريب أو جار , كما انه ليس لها أن تستطيع البدء في رفع أعمدة المسدة في أي يوم من أيام الأسبوع , فهناك بعض الأيام تصمت فيها دقات المسدة تكريما لها , حيث يرتبط الجرد أيضا بطقوس الدفن , اد تقطع أطراف الجرد ولاتدفن مع صاحبه دلك لأنها تحمل دلالات روحية ودينية قديمة ظلت مرتبطة مع الجرد حتى يوم الناس هدا , ومع تنوع الرقم على أطراف الجرد , تظل الالهة تانيت الحاضرة دائما في هده التفاصيل .
* أبلوم
كانت الأردية الرومانية متاثرة بالروح اليونانية التي تميل إلي الضيق أو الاتساع وتحتوي على زخارف , ولبس الرومان _ الهيماتيون _ بالاشارة الى الرداء الإغريقي الذي يغطي كتفا واحدة ويترك الأخرى عارية , هدا اللباس يحمل اسمين palaeum وpala وبلوم تعني العبأة النسائية , هنا نتوقف قليلا ونتسأل من أين جاء الاسم ابلوم , وهي كلمة امازيغية تشير إلى الأغطية الصوفية التي مازالت تنكب عليها حارسة النسيج والثقافة _ المرأة الليبية , هل من المصادفة أن ينطبق هدا الاسم مع الاسم الامازيغي أبلوم ؟ , من الذي أخد عن الأخر ؟ .
*ولع الشباب بلباس أبلوم أو التوجا
هده العباءة سوف يتلفع بها الملوك في العهد الجمهوري والحكام والقناصل ,كما أغرمت الشباب في سنهم المبكر , ومازلت تحتفظ النقوش اللاتينية في روما , بإن الإمبراطور الليبي سيبتيموس سيفيروس قد أهدى هدا اللباس لابنه كركلا عندما عينه قنصلا وشريكا له في الحكم , ونعثر هنا بالمصادفة على ان كركللا ليس اسم ابن سيبتيموس , واسمه الحقيقي / ماركوس أورليوس / الذي ينتصب قوسه في المدينة القديمة بالعاصمة الليبية طرابلس , و كركللا لقب يعني الذي يرتدي التوب اكيتلي .
*تشابه بين الرداء الروماني والليبي
كانت عباءة المواطن الروماني العادي كما المترف , تصنع من الصوف بلونه الطبيعي , وهناك عباءة أخرى تأخذ اللون الأسود أو اللون الرمادي والبني وتلبس في مناسبات الحداد , أكثر من دلك يذهب المؤرخون إلى نقاط التشابه بين الرداء الليبي والروماني , وعند المقارنة نجد أنه هناك بعض النقاط المشتركة , الامر يتعلق بالربطة التي يطلق عليها الليبيون _ التكامية _ أي الربطة المكروسة عند الصدر , كما توجد زخارف في أطراف الحولي الليبي , أما الرداء الروماني فله شريط بنفسجي اللون , ويشترك الردائين في كونهما يصنعان من الصوف , تعددت أشكال الرداء الروماني وارتبط بالوسط الاجتماعي ما يضيف نقطة تشابه أخرى ظلت حاضرة في المجتمع الليبي حتى هده اللحظة , لكن السؤال مايزال مشرعا في العيون , ماهو سر هدا التشابه ؟, من الذي أخد عن الأخر؟ , في كل الاحوال ستظل المرأة الليبية وحدها التي حافظت على هدا الوجه الثقافي المميز اد يدكر التاريخ ان اليونان وعنهم الرومان قد أخدوا الجرد عن النساء الليبيات , ومهما تداخلت وتقاطعت بدايات صناعة الجرد , فانه من الواضح ان المواطنون في الدولة الرومانية قد تعاطوا مع الجرد بشكل أو بأخر , على ان المرأة الليبية أكسبته صفة الصناعة المحلية بامتياز و مند زمن غابر في القدم .
*المرأة الامازيغية النساجة
قلنا لقد تركت المرأة الليبية بقية الصناعات والحرف للرجل , وذهبت هي تكسي زوجها وأبنائها وتنسج الأغطية التي تلزم العائلة أو تبدأ في التخيطيط على الكليم , وعلى امتداد تلك الخيوط الصوفية باختلاف احجامها تتشابك أوجه الثقافة التي تندس بين أقلام الصوف , لم يكن النسيج عند المراة الليبية مجرد حاجة للغطاء والكساء , لقد تجاوزت هده الرغبة او الحاجة الى مهمة أخرى سوف نتعرف على قيمتها عندما نفك شيفرة الخطوط والرسومات والوشم والكتابة الليبية القديمة , لقد أحالت المرآة الليبية مساحة نسيجها إلى لوحات تحمل دلالات تاريخية , بل تحمل هما ثقافيا بكل ما تعنيه الكلمة .
*ما علاقة الصوف بالتصوف ؟
كيف يمكن أن تحيلنا كلمة الصوف إلي التصوف والعبادة والتقشف والزهد في الحياة , لقد كان بعض الأثريين الدين مسحوا جزء من آثار مدينة صبراته إلى وقت قريب يعتقدون بوجود شارع في المدينة يختص بمعاصر الزيت يقع على شاطئ البحر مباشرة , لكن البروفسور _ ماتينجلي _ استبعد لاحقا هده الفكرة , باعتبار الرجل متخصصا في معاصر الزيت الرومانية في شمال أفريقيا , واعتبر بان الشارع كان مخصصا لصناعة دبغ الجلود , ويمتلئ بمغاسل للصوف التي ومن المفارقات الغريبة أنها كانت تحتاج إلى البول وماء البحر , وعلى بعد متر واحدا تقريبا تقع المراحيض العامة , هدا كلام نفض عليه الغبار الباحث الليبي يوسف الختالي فيما يخص مغاسل الصوف في صبراتة القديمة, أكثر من هدا أن الصوف ارتبط بالتصوف والصوفية , اد ينصرف لباسه إلى الخشونة وحتى البساطة والزهد في الحياة حسب اعتقاد بعض العلماء العرب , لكن كلمة الصوفية سوف تحيرنا عندما نعرف ان كلمة الصوفية في الإسلام هي ذاتها الكلمة اليونانية صوفيا أو سوفيا .
تشير المراجع التاريخية إلى أن صناعة الصوف المنقي والمغزول لم تكن على هدا الشكل , حيث كانت تعتمد الصناعات على الصوف الملبد , وكان الاغريقيون يلبسون باطن خوداتهم المعدنية بالصوف الملبد , وكان الجنود الرومان يرتدون دوارع صوفية سميكة تحميهم من الطعنات المباشرة , و ذكر المؤرخ الروماني / سيكوندوس / بان الصوف الملبد سوف يستطيع مقاومة الحرارة والحديد لو ثمت معالجته بالخل , وقد دهب تفكير الرومان في صبراتة الى معالجته بالبول , وكانوا يحملون البول في أوعية فخارية كبيرة من الحمامات المجاورة لشاطئ البحر في صبراتة الى مصانع الجلود والصوف .
مازال الجرد يحيلنا الى تشعبات كثيرة ويجعلنا نضرب كفا بكف كلما عثرنا على تفاصيل جديدة يحتويها عالم النسيج والصوف والحولي .
*اعتزاز الليبي بجرده
يلبس الإنسان الليبي الجرد في كل المناسبات ويعتز بهدا اللباس الذي يعتبر احد الروافد التي تصب في وعاء الهوية , يلبسه اثناء العمل وأثناء التسوق وأثناء الزيارات وحتى في المناسبات الاجتماعية والدينية وخلافها , وقد يستعمله الليبي كفراشا وغطاء وآدا دعته الحاجة فقد يستعمله في سحب الماء من الآبار , الليبي يلبس الجرد حتى أثناء الحروب , فلقد تم القبض على شيخ المجاهدين سيدي عمر المختار وهو يرتدي جرده ولم يتخلى عنه إلا عندما وضعوه في منصة المشنقة , وظهرت صوره بالجرد وهو مقيد بالسلاسل التي وضعها في قدميه المستعمر الإيطالي الغازي.
يعتبر الليبيون إن أمهر صانعات الحولي هن فتيات ونساء ادرار نفوسا _ الجبل الغربي _ , ومازلن النساء النفوسيات حتى تاريخ كتابة هدا التقرير يتنافسن على صناعة أجمل وأخف حولي , حيث يصل وزن الجرد الممتاز إلى أقل من ثلاثة كيلو جرام , ويتم تعيير الحولي ما اذا كان بامكانه أن يحتفظ بالمياه لفترة طويلة قبل ان تتسرب من بين خيوطه , هدا اللباس الليبي الأصيل الذي يطلق عليه الحولي او الجرد , مازالت دقات المسدة تتواصل بين يدي الصانعة الليبية لكي تنجزه .
*تمت الاستفادة من / غوليا ناردوتشي / في كتابه / برقة مند الاستيطان الإغريقي – مقالات الباحثةالليبية _ سعاد بوبرنوسة – كتاب المؤرخ / دونالد .ر. ددلي / – مقالات الاستاذ _ يوسف الختالي / موسوعة تاماتارت / أرشيف ؤس